ضريبة الكربون.. الأغنياء يربحون "البيئة النظيفة" والفقراء يدفعون "الثمن"

كيف تحوّلت حماية البيئة إلى عبء على الجنوب العالمي؟

ضريبة الكربون.. الأغنياء يربحون "البيئة النظيفة" والفقراء يدفعون "الثمن"
انبعاثات - أرشيف

يواصل الاتحاد الأوروبي سعيه المحموم لتسعير الكربون عالميًا، في محاولة للجمع بين حماية المناخ والدفاع عن أسواقه الداخلية، ومع العد التنازلي لتطبيق ضريبة الكربون على السلع المستوردة اعتبارًا من عام 2026، يجد التكتل نفسه في مواجهة معادلة معقدة بين الحق في بيئة نظيفة والحق في عدالة اقتصادية.

تُشير صحيفة "فايننشيال تايمز" إلى أن المفوضية الأوروبية عززت خلال العام الماضي تعاونها مع أكثر من 40 دولة، ضمن فريق العمل الدولي لتسعير الكربون، في مسعى لتوسيع نطاق أنظمة تداول الانبعاثات (ETS) حول العالم.

ويهدف الاتحاد إلى تشجيع أكبر الدول المسببة للتلوث، مثل الصين والهند، على تحسين كفاءة أسواقها الكربونية قبل بدء فرض الضريبة الجديدة على الحدود الأوروبية.

تحركات دولية قبل فرض الضريبة

تتحرك دول عدة بخطى متسارعة لإنشاء أسواق كربونية، فقد سنّت البرازيل وتركيا تشريعات لتأسيس أنظمة لتداول الانبعاثات، في حين تحولت اليابان من نظام طوعي إلى نظام إلزامي، أما الصين فقد وسّعت في مارس نطاق نظامها ليشمل شركات كبرى في قطاعات الألومنيوم والصلب والأسمنت، وهي جميعها ضمن نطاق آلية تعديل حدود الكربون (CBAM) الأوروبية.

وترى المفوضية الأوروبية أن هذه الجهود تأتي في لحظة حاسمة، إذ تُغطي أنظمة تسعير الكربون الآن نحو 28% من الانبعاثات العالمية، وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2025.

كما ارتفع عدد الدول التي تطبق أو تدرس تطبيق تسعير الكربون إلى ثمانين دولة مقارنة بعشر دول فقط عام 2005، وهو ما يفتح الباب أمام تحول اقتصادي عالمي عميق، يحمل بُعدًا حقوقيًا واضحًا في تحقيق المساواة في تحمل أعباء التغير المناخي.

نظام أوروبي في قلب الجدل

منذ إطلاق الاتحاد الأوروبي نظامه لتداول الانبعاثات عام 2005، اعتمد التكتل مبدأ "تحديد سقف الانبعاثات وتداولها"، ما يفرض على الشركات الملوثة شراء تصاريح تسمح لها بإطلاق الكربون في الجو، ومع اقتراب عام 2026، سيبدأ الاتحاد بفرض ضريبة جديدة على الواردات وفق آلية CBAM، تفرض على الدول التي لا تلتزم بتسعير الكربون تحمل كلفة الانبعاثات.

وصرّح مفوض المناخ في الاتحاد الأوروبي، فوبكي هوكسترا، لصحيفة "فايننشيال تايمز" بأن الجمع بين "نجاح نظام تجارة الانبعاثات" و"تأثير تطبيق ضريبة الكربون الحدودية" جعل دولًا كبرى تُعيد النظر في سياساتها البيئية.

ووصف هوكسترا تسعير الكربون بأنه "أداة دبلوماسية فعالة للغاية" لدفع الدول إلى اتخاذ إجراءات أكثر جدية في مواجهة التغير المناخي.

العدالة البيئية والاقتصادية

يثير النظام الجديد جدلًا واسعًا حول حق الدول النامية في التنمية مقابل واجبها في خفض الانبعاثات، فبينما يرى الاتحاد الأوروبي في الضريبة وسيلة لحماية الكوكب، تعتبرها دول مثل البرازيل والهند والصين إجراءً تجاريًا أحادي الجانب يحمل طابعًا عقابيًا على الاقتصادات النامية، كما أعربت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن اعتراضها على الضريبة، نظرًا لتأثيرها في صادرات الصناعات الأمريكية.

وترى الصحيفة البريطانية أن هذه الانتقادات تضع الاتحاد الأوروبي أمام اختبار حقوقي مزدوج؛ إذ كيف يحقق العدالة المناخية دون الإضرار بالعدالة الاقتصادية، وكيف يُوازن بين التزامه بحماية البيئة والتزامه بعدم فرض قيود تمييزية على التجارة العالمية.

ومن جانبها، تستعد البرازيل، الدولة المضيفة لقمة المناخ المقبلة (COP30)، لطرح مبادرة دولية لتنسيق الجهود نحو تحالف عالمي لتسعير الكربون، بمشاركة الاتحاد الأوروبي والصين.

ويقترح المشروع البرازيلي تخفيض الرسوم على الدول منخفضة الدخل، وإعفاء الدول الأفقر، إلى جانب توجيه جزء من عائدات هذه الرسوم إلى تمويل المناخ في الدول النامية، ورغم أن الاتحاد الأوروبي درس الفكرة، فإنه رفض تنفيذها حتى الآن.

وقال رافائيل دوبو، المسؤول في وزارة المالية البرازيلية، إن أوروبا "ستستفيد أكثر من المشاركة في نظام مشترك بدلًا من الانفراد بوضع المعايير العالمية"، وتضيف "فايننشيال تايمز" أن المقترح يعكس تحوّلًا مهمًا في التفكير الدولي، إذ لم تعد العدالة المناخية تقتصر على خفض الانبعاثات، بل تشمل أيضًا الحق في المشاركة المتكافئة في صنع السياسات البيئية.

تقرير البنك الدولي

يشير تقرير البنك الدولي إلى أن الإيرادات العالمية الناتجة عن تسعير الكربون تجاوزت 100 مليار دولار في عام 2024، مع تخصيص أكثر من نصفها لمشاريع البيئة والبنية التحتية والتنمية المستدامة.

وأوضح المدير الإداري الأول للبنك الدولي، أكسل فان تروتسنبرغ، أن تسعير الكربون "يساعد الدول على خفض الانبعاثات، وزيادة الإيرادات المحلية، وتحفيز النمو الأخضر وخلق فرص العمل".

ورغم هذه المكاسب، فإن التفاوت في الأسعار بين الدول يُثير مخاوف حول عدم المساواة المناخية، إذ يظل السعر الأوروبي الأعلى عالميًا، عند نحو 76 يورو للطن من ثاني أكسيد الكربون، في حين تبقى أغلب الأنظمة الأخرى عند مستويات أدنى بكثير.

وفي جانب آخر من المشهد، كشفت وكالة "رويترز" أن البرلمان الأوروبي وافق في مايو الماضي على إعفاء أكثر من 90% من الشركات الصغيرة من آلية تعديل الكربون الحدودية، لتخفيف الأعباء البيروقراطية عن المستوردين.

وأوضحت الوكالة أن الشركات التي تستورد أقل من 50 طنًا متريًا من السلع سنويًا لن تكون خاضعة للضريبة، رغم أن الـ10% المتبقية من المستوردين مسؤولة عن أكثر من 99% من الانبعاثات المغطاة.

وأشارت إلى أن هذه التعديلات تهدف إلى حماية المنتجين الأوروبيين من المنافسة الأرخص في الأسواق ذات القوانين المناخية الضعيفة، ومنع "تسرب الكربون" إلى دول مثل الولايات المتحدة، لكن في المقابل، يرى محللون أن هذه الإعفاءات قد تضعف مبدأ المسؤولية المشتركة الذي يُعد جوهر العدالة المناخية.

وبحسب صحيفة "بوليتيكو"، تدفع دول الاتحاد الأوروبي الكبرى، وعلى رأسها فرنسا وإيطاليا وبولندا، نحو توسيع ضريبة الكربون الحدودية لتشمل مزيدًا من القطاعات خلال السنوات المقبلة، بهدف المساعدة في سداد أكثر من 300 مليار يورو من ديون حقبة كوفيد-19، وترى هذه الدول أن توسيع نطاق آلية CBAM ليشمل المنتجات النهائية وشبه النهائية يمكن أن يُدرّ موارد مالية جديدة للاتحاد الأوروبي.

الحاجة إلى موارد جديدة

نقلت "بوليتيكو" عن نائب وزير المالية البولندي، باول كاربوونيك، قوله: "نحتاج إلى إيجاد موارد جديدة خاصة بنا، ومن بين هذه الموارد قد يكون برنامج CBAM هو الخيار الأكثر وعدًا"، وتضيف الصحيفة أن الخطط الجديدة تهدف إلى تحويل الضريبة إلى أداة مالية تمكّن الاتحاد من تحقيق استدامة اقتصادية إلى جانب أهدافه المناخية، في توازن دقيق بين البيئة والاقتصاد.

ويثير تصاعد الاعتماد على ضريبة الكربون العالمية نقاشًا متزايدًا حول سيادة الدول في اتخاذ قراراتها البيئية، فبينما تسعى أوروبا لتصدير نموذجها الأخضر للعالم، ترى بعض الدول النامية أن فرض الأسعار من الخارج يُقيد حريتها في صياغة سياسات تراعي واقعها الاقتصادي والاجتماعي، ويمثل هذا التوتر جانبًا حقوقيًا محوريًا في قضية المناخ المعاصرة: من يملك حق تحديد تكلفة التلوث؟

ومع اقتراب تطبيق الضريبة في يناير 2026، يتضح أن العالم أمام لحظة فارقة، فالتسعير العادل للكربون لا يعني فقط ضبط الأسواق، بل إعادة تعريف مفهوم العدالة المناخية ذاتها، حيث تتقاطع الحقوق البيئية مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في نظام عالمي جديد يتشكل على حدود الكربون.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية